المقاتلون السابقون لحركة “فارك” وضحايا النزاع المسلح يخلدون بشكل مشترك أعياد الميلاد ضمن سابقة هي الأولى من نوعها بكولومبيا

  (بقلم محمد بن مسعود)

بوغوتا –  ستظل الصور التي تناقلتها بداية الأسبوع الجاري مختلف القنوات المحلية راسخة في الذاكرة الجماعية للكولومبيين، ويتعلق الأمر بتخليد المقاتلين السابقين في صفوف حركة “القوات المسلحة الثورية لكولومبيا” (فارك) وضحايا النزاع المسلح لاحتفالات أعياد الميلاد بشكل مشترك، ضمن خطوة تقارب إضافية كانت حتى وقت قريب مستبعدة تماما.

وأنعش هذا التقارب الجديد آمال الكولومبيين في طي بلادهم بشكل نهائي لنزاع دام بلغت حصيلة ضحاياه على امتداد أزيد من نصف قرن،260 الف قتيل كما أدى الى فقدان 60 الفا آخرين فضلا عن نزوح 9ر6 مليون نسمة عن ديارهم.

    وكانت ديبيرا، وهي قرية صغيرة بجبال الأنديز الكولومبية، مسرحا لهذا التقارب، حيث خلد يتامى وأرامل ونازحون بسبب النزاع المسلح أعياد الميلاد الى جانب جلاديهم القدامى وسط حضور عناصر الجيش وقوات الأمن.

 ويكتسي هذا الاحتفال المشترك بين الضحية والجلاد بأعياد الميلاد رمزية كبيرة ويعكس ارادة الكولومبيين في طي صفحة الكراهية والضغينة التي تراكمت بسبب النزاع المسلح، والتطلع الى المستقبل.

   وهذا الاحتفال، الذي نظم بمبادرة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بمثابة استجابة لخطاب وجهه الرئيس الكولومبي، خوان مانويل سانتوس، الى الشعب دعا فيه مواطنيه الى “فتح قلوبهم أمام المصالحة”.

    وقال سانتوس، في رسالة بمناسبة أعياد الميلاد نقلها التلفزيون والإذاعة الوطنيان، إنه بينما تعم روح أعياد الميلاد على البلاد، “يتعين علينا فتح قلوبنا للمصالحة بهدف بناء بلاد أفضل” حالا.

   ورأى إيكاردو غراسيانو، المقاتل السابق الذي قضى 20 عاما في مواقع حركة “فارك”، أن هذه “الاحتفالات ستظل راسخة في التاريخ، إنها سابقة ونموذج يبرز لباقي جهات البلاد إمكانية إرساء السلام والمساهمة في تكريس المصالحة”.

   وأضاف غراسيانو، في إفادات نقلتها وسائل الإعلام المحلية، أن هذا التقارب بمثابة خيال، لم نعتقد في أي وقت من الأوقات أنه سيأتي يوم نجلس فيه على مائدة واحدة الى جانب جنود وعناصر شرطة وموظفين حكوميين وضحايا، إننا نتقاسم خلال أعياد الميلاد الأمل”.

   وفي ظل أجواء طغى عليها الطابع الودي، جلس مقاتلو حركة “فارك” ونازحون وجنود حول مائدة عشاء واحدة وغنوا بشكل مشترك لغاية فجر الاثنين لإبراز ارادتهم في تجاوز الكراهية وفتح حقبة جديدة أمام المصالحة الوطنية.

   ولا تندر نماذج الصفح والشهامة بالمناطق التي عانت من النزاع المسلح الذي دمر البلاد طيلة أزيد من نصف قرن، كما هو الشأن بالنسبة لكارمن توليا كوردونا التي تناقلت قصة تسامحها العديد من الصحف الكولومبية.

فلم تكتفي هذه السيدة بالصفح عن حركة “فارك” التي قتلت زوجها، وإنما قبلت بوضع ضيعتها، التي تمتد على مساحة 17 هكتارا، رهن إشارة الأمم المتحدة لتتحول الى “فضاء ترابي للتكوين وإعادة الإدماج” من المقرر أن تستقبل مقاتلين سابقين ب “فارك” تحولوا الى مدنيين.

   وهكذا بات أعداء الأمس جيرانا لكارمن توليا كاردونا، ويبرز هذا التسامح الأجواء السائدة بالبلاد منذ توقيع اتفاق السلام مع حركة “فارك” سنة 2016.

   وأبرمت السلطات في نونبر من العام الماضي اتفاق سلام تاريخي مع “فارك” تخلى بمقتضاه مقاتلو الحركة المسلحة الأكثر قوة بالبلاد عن “النزاع المسلح” وطلبوا الصفح من الشعب الكولومبي عن الجرائم التي ارتكبوها وتحولوا الى حزب سياسي.

   وقد أعلن زعيم الحركة رودريغو لوندونو الشهير بلقب “تيموشينكو” في بداية نونبر الماضي أنه يعتزم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.

   ويأمل الرئيس خوان مانويل سانتوس، الذي يقترب من استكمال ولايته الرئاسية الثانية والحائز على جائزة نوبل للسلام في 2016، التوصل الى اتفاق مماثل مع آخر حركة مسلحة بالبلاد ممثلة في حركة “جيش التحرير الوطني” الذي تجري معه الحكومة مباحثات بكويتو في الإكوادور.