“المعلم” ادريس الساخي: على صحن فضة يوقع عبوره في سجل الإبداع الحرفي المغربي

“المعلم” ادريس الساخي: على صحن فضة يوقع عبوره في سجل الإبداع الحرفي المغربي

الثلاثاء, 8 أبريل, 2014 - 14:13

(بقلم.. نزار الفراوي)

الرباط – بتلك الطرقات الخفيفة التي تحول صفيحة نحاسية الى تحفة فنية عابرة للأوطان، بذلك الإيقاع الذي يكاد المرء ينصت من خلاله الى قصة إبداع بشري لا يحدها عمر، يوقع المعلم ادريس بصمته في سجل عبقرية مغربية تليدة توثقها ذخائر الصناعة التقليدية.
سفيرا فوق العادة، علامة جودة متنقلة عبر المحافل الوطنية والدولية، وجها بشوشا ناطقا بأصالة وعنفوان تراث إنساني استحق بعده الكوني، حل ادريس الساخي قبل أيام بالكويت. في جناح يعرض عينات من الصناعات التقليدية داخل قاعة الراية الفسيحة، التي احتضنت المركز الاعلامي بمناسبة القمة العربية، انضم الرجل الى زملاء له من بلاد العرب كلها، منكبا في رواق يوشحه علم المملكة، بمسماره المشحوذ (المقطع) على صحن نحاسي يطوعه، يشكله، ينطق به ذاكرة فاس وحواريها وسلالة حرفييها.
على مدى أسبوع، ومنذ الساعات الأولى لمقامه الخليجي، تجلت جاذبية الشيخ الستيني الودود، بجلبابه الأبيض الحريري وطربوشه الأحمر، يتلقى التحايا، بعضها بلهجة مشرقية “يعطيك العافية يا شيخ”، وأخرى بمغربية مرطونة بلسان خليجي عاشق “زوين بزاف يا طويل العمر”. وسريعا أصبح الرجل علما للمكان. ينادونه بما يناديه رفيقه المغربي في الرحلة: ابا ادريس.
ليست الكويت الا محطة من سلسلة رحلاته التي لا يحصيها، حملته الى أصقاع لم تراوده حتى حلما، وهو ذلك الصبي الذي كان، سليل أب فقير تعاطى في فاس العتيقة، نسج أدوات من “الدوم”، نبات أصله “الحياني” من منطقة تيسة، ولعله تبين انسداد أفق الحرفة البسيطة، فقاد ولده ذا السبع سنين الى “معلم” يمتهن نقش النحاس والفضة.
يطلب لمعلمه الرحمة، ويعده “أبا روحيا”، لكنه يذكر بألم فصول طفولة حرفية قاسية. “حالي كجيل من الأطفال الذين شبوا في دروب الحرف. تعلمنا أسرار صناعتنا من معلمينا، لكن الأمر لم يخل من سوء معاملة، واستغلال”. في حديث الذكريات لوكالة المغرب العربي للأنباء، يستحضر بتأثر كتاب السنين البعيدة “لسنوات وأنا أتسلم مبلغ 14 ريالا في نهاية الأسبوع. أمضيت الكثير من الوقت قبل أن أصنع لي اسما معروفا في السوق بمهارته، كنت قد أشرفت على عقدي الثاني، لكني لم أملك بعد القدرة على الانطلاق بمشروعي الخاص”.
الذكاء والاجتهاد عملة التميز في قطاع شديد التنافسية. كان المعلم الذي لقنه أصول الحرفة يقوم بكل العمليات المتعلقة بالنحاس والفضة، إلا النقش. سيهتدي ابا ادريس بشغف وانجذاب سحري الى فك ألغاز هذه التقنية خارج المهام المطلوبة من المحل. لقد امتلك مقطعه الخاص وبات يسرق لحظات لتمرين الموهبة على تشكيل المعدن الأصفر، ليكمل إتقان كل مراحل سلسلة تحويل النحاس والفضة الى قطع تخطف الألباب. وهو يجتاز عتبة العقد الثالث، سيصبح ادريس الساخي “المعلم” الذي يروج اسمه بقوة في حي الصفارين بفاس العتيقة، كواحد من مبدعي صناعة فنية بامتياز.
على خلاف كثير من الحرفيين، يرى المعلم ادريس الساخي أن صناع اليوم محظوظون: “هناك دعم للدولة، ومسابقات ومعارض للترويج، وهي أمور كانت غائبة في أيام شبابنا”، لكن ما يثير قلقه على مستقبل الحرف التقليدية بالمغرب، هو مشكل الخلف الذي يحمل شعلة الاستمرارية والتجديد. يتفهم بصعوبة وجاهة مجهودات الدولة والمجتمع المدني من أجل منع تشغيل الأطفال، وهو الذي يقتنع أن تعلم الحرف في المراحل المبكرة من الطفولة ضروري من أجل انضاج الموهبة وامتلاك أسرارها. حتى مسارات التكوين الحالية، في نظره، لا تحل المشكلة لأنها ذات طابع نظري بالأساس، وقصيرة الأمد. يقول المعلم ادريس: “سنة أو سنتان من الدروس داخل الجدران لا تكفي لتكوين صناع المستقبل. الاحتكاك بالمعلمين أمر ضروري”.
يحتفظ ابا ادريس بذكرى أول رحلة ترويجية خارج الحدود. كان ذلك الى سويسرا حيث عرض إبداعاته في فضاء ملحق بمطعم مغربي، لتتوالى الدعوات وتتعدد أختام الدخول والخروج على صفحات جواز السفر. فرنسا، الولايات المتحدة، روسيا، بولندا، لبنان، البحرين، سلطنة عمان، قطر…والقائمة طويلة. نال جوائز، والتقط صورا مع شخصيات من عوالم متنوعة، لكنه يفخر أنه عاد في كل مرة وقد حاز في كل الفضاءات التي جابها شهادات اعتراف بأصالة وتفرد تراث إبداعي إنساني تفتق بعضه في الأزقة الضيقة للمدن العتيقة وبعضه الآخر في البيوت القروية الوطيئة على امتداد المغرب.
في سلطنة عمان، حاز الجائزة الأولى. من البحرين، حل أحد كبار الصناع ضيفا عليه في فاس ليطلع على تقنيات الحرفي المغربي التي مكنته من الصمود في وجه الزمن. في موسكو، خاطبه مهتمون روس وهم يتطلعون الى “البابور” النحاسي الآيل الى الاندثار: “حافظوا على تراثكم، فقد أضعنا تراثنا”.
شيء يحز في نفسه، خلاصة “سفاراته” العديدة الى الخارج. يدق المعلم ناقوس خطر : “الأوروبيون عموما يقدرون مصنوعاتنا، يعترفون بإبداعيتها، لكنهم يحملون فكرة مسبقة قد يكون بعضنا مسؤولا عنها. للأسف، الخوف من الغش والخديعة في السعر والجودة، ينفر شرائح واسعة من الإقبال على منتجات القطاع”.
قصة مجد مهني نموذجي، ومسار ارتقاء اجتماعي جدير بالاقتداء، لكن المعلم ادريس يحمل غصة تشوش عليه نعمة الرضا. يتألم لأنه لم ينل حظ المدرسة، ويندم ثانية لأنه لم يتدارك ما فاته حين توفرت له شروط ذلك، في عمر متقدم. لعله حرص على التعويض أن شجع أبناءه الثلاثة على المثابرة في فصول الدراسة، ولو إلى حين. ذلك أن نداء الجذور عاد ليسحبهم واحدا بعد الآخر الى استئناف مهمة صون إرث الوالد، إرث المغاربة أجمعين.

 

اقرأ أيضا

تلاميذ فلسطينيون يزورون رواق وكالة بيت مال القدس بالمعرض الدولي للنشر والكتاب

الأربعاء, 15 مايو, 2024 في 14:44

زار تلاميذ فلسطينيون يمثلون عدة مؤسسات تعليمية بمدينة القدس ، اليوم الأربعاء، رواق وكالة بيت مال القدس بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط.

الذكاء الاصطناعي.. الجيل (Z) مطالب بالتكيف مع سوق شغل يشهد تحولات كبرى (لقاء)

الأربعاء, 15 مايو, 2024 في 14:18

سلط المشاركون في لقاء – مناقشة نظمته جامعة الأخوين، مساء أمس الثلاثاء بالدار البيضاء، الضوء على أهمية تكيف “الجيل زد” (génération Z) مع سوق الشغل الذي يشهد تحولات كبرى في ظل التأثير المتزايد للذكاء الاصطناعي.

الإعلان عن طلبات العروض لتوسيع مطارات مراكش وأكادير وطنجة خلال الأسابيع المقبلة (وزير)

الثلاثاء, 14 مايو, 2024 في 23:45

أفاد وزير النقل واللوجستيك، محمد عبد الجليل، اليوم الثلاثاء بمجلس المستشارين، بأنه سيتم الإعلان عن طلبات العروض لتوسيع مطارات مراكش وأكادير وطنجة، خلال الأسابيع القليلة المقبلة.